وقفات في تحقيق التقوى في رمضان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه, وبعد:
فمن المعلوم أن أعظم مقاصد الصوم هو تحقيق التقوى لله تعالى, كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وتحقيق التقوى بالصوم لِأَنَّ الصَّوْمَ وَصْلَةٌ إِلَى التَّقْوَى، لِمَا فِيهِ مِنْ قَهْرِ النَّفْسِ وَكَسْرِها وترك الشهوات [انظر تفسير البغوي 1/214].
ولي في هذه العجالة وقفات سريعة في كيفية تحقيق العبد للتقوى في رمضان, وقبل ذلك أمهّد ببيان المقصود من التقوى.
تمهيد: تعريف التقوى :
روى ابن المبارك في كتاب الزهد عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ قَالَ طَلْقٌ: «اتَّقُوهَا بِالتَّقْوَى» ، قَالَ بَكْرٌ: أَجْمِلْ لَنَا التَّقْوَى، قَالَ: «التَّقْوَى عَمَلٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، خِيفَةَ عِقَابِ اللَّهِ». هذا التعريف من طلق بن حبيب تعريف جامع استحسنه أهل العلم, وقبلوه تعريفا للتقوى ودوّنوه في مؤلفاتهم.
قال ابن القيم رحمه الله : "وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى" [الرسالة التبوكية (ص: 13)].
وقال الذهبي معلقا على قول طلق : "أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية، فقد فاز". [سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 601)].
فتلخص لنا من تعريف طلق بن حبيب رحمه الله للتقوى أنها القيام بالطاعات والبعد عن المعاصي كلّ ذلك بعلم وبصيرة, رجاء لثواب الله وخوفا من عقوبته.
وأما تحقيقنا لهذه التقوى في صيامنا, فيمكن إيجازه فيما يأتي:
الوقفة الأولى: صيام رمضان اعتقادا لفرضيّته وطلبا للثواب من الله:
وفي هذا الأمر يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [متفق عليه]. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" إيمانا واحتسابا" إيمانا أي الِاعْتِقَادُ بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ وَبِالِاحْتِسَابِ طَلَبُ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. [قاله ابن حجر في فتح الباري (4/ 115)] . فيصوم العبد هذا الشهر, لأن الله افترضه على العباد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}, ولأنه من أركان الإسلام, كما في هو مشهور في حديث جبريل وغيره. ومع صيام العبد فهو يرجى الثواب من الله واحتساب الأجر على امتثاله وتحمله وقيامه بهذه الفريضة العظيمة.
الوقفة الثانية: اجتناب المحرمات :
لا يتعلق اجتناب الحرام بشهر رمضان فقط, بل هو واجب على العبد في جميع الشهور والأزمنة, ولكن يزداد الأمر أهمية في هذا الشهر الفضيل لفضله ومنزلته. فالحسنات فيه تعظم, والإثم فيه يكون أشد, قال الشيخ ابن باز رحمه الله :"شهر رمضان هو أفضل أشهر العام ، فهو شهر مغفرة ورحمة وعتق من النار ، فإذا كان الشهر فاضلا والمكان فاضلا ضوعفت فيه الحسنات ، وعظم فيه إثم السيئات ، فسيئة في رمضان أعظم إثما من السيئة في غيره ، كما أن طاعة في رمضان أكثر ثوابا عند الله من طاعة في غيره ، لما كان رمضان بتلك المنزلة العظيمة كان للطاعة فيه فضل عظيم ومضاعفة كثيرة وكان إثم المعاصي فيه أشد وأكبر من إثمها في غيره" [مجموع فتاوى ابن باز 15/446] . وقد جاء في الحديث " وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " [متفق عليه]
قال ابن حجر:" وَالْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ , وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ, وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ جُنَّةٌ أَيْ سُتْرَةٌ يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ, فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ " [فتح الباري لابن حجر (4/ 104) بتصرف].
وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث) والرفث هو: الْكَلَامُ الْفَاحِشُ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا [فتح الباري لابن حجر (4/ 104)].
الوقفة الثالثة: استغلال الأوقات في تنويع العبادات لله تعالى:
فالمؤمن الحريص على قبول عمله, الكيّس الفطن, يقضي وقته في عبادة الله والتقرب له, ولا سيما في هذا الشهر الفضيل, فهو بين تلاوة القرآن, والنوافل من الصلوات, وإعانة المحتاجين, وتفطير الصائمين, وقيام رمضان, فله في كل عبادة سهم ومنفعة. وهو في ذلك كلّه يقدّم الأفضل فالأفضل, ويحرص أن يستغل وقته بالعبادة , ولا شك أن من أفضل القرب والعبادات أن تتقرب إلى الله تعالى بكلامه وهو القرآن الكريم, تلاوة وحفظا, وفهما وتفسيرا, وعملا وامتثالا. قال ابن الجوزي رحمه الله: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل" [صيد الخاطر (ص: 33)].
وليتأمل العبد قول نبيه صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ» [أخرجه الترمذي (4/ 190) وغيره, وهو صحيح].
الوقفة الرابعة : المحافظة على صيامه:
ليس الصيام هو صيام عن الأكل والشرب فحسب, بل مفهوم الصيام أوسع من ذلك, فالصيام من كل ما يسيء للصائم وينقص أجره, أو يكون سببا لردّ عبادته عليه.
وفي الحديث :«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» [ أخرجه البخاري].
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله: " لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصَّوْمِ نَفْسَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ بَلْ مَا يَتْبَعُهُ مِنْ كَسْرِ الشَّهَوَاتِ وَتَطْوِيعِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ لِلنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ". [فتح الباري لابن حجر (4/ 117)].
ومن هنا فكان الواجب على العبد أن يحافظ على صومه, ويجتنب كل ما يؤدي إلى الخلل في قبول هذه العبادة منه. قال عليّ رضي الله عنه : «أَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَكِنْ مِنَ الْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ، وَاللَّغْوِ» [مصنف ابن أبي شيبة (2/ 272)]. ولذلك كان السلف يسعون في حفظ صيامهم, كما جاء «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَصْحَابَهُ كَانُوا إِذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ» [مصنف ابن أبي شيبة (2/271)].
فمن صام هذا الشهر مؤمنا بفرضيته, وراغبا الثواب من ربّه, ومبتعدا عن أسباب بطلان صومه أو نقصه, مستغلا وقته فيما ينفعه من العتاد, وقائما على نفسه بالمراقبة والاجتهاد, فيرجى له من ذلك تحقيق التقوى, والتي بها يتقبل الله الأعمال, { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
فاللهم تقبل العمل, وتجاوز عن الغفلة والزلل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه: محمد بن غالب العُمري
23 شعبان1438هـ