من فقه التعامل مع الفتن


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

إن الفتن داء مهلك، وشر يفتك، والعاقل مأمور بطلب السلامة والعافية، واجتناب الفتن جميعها، فإن ذلك من أعظم أسباب السعادة، ونقيضها من أسباب الشقاء والتعاسة، ففي الحديث النبوي: «إن السعيد لمن جنب الفتن»، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين بالاستعاذة من الفتن بقوله: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، ومن القواعد الفقهية أن المنع أسهل من الرفع، فمنع الفتنة أسهل من رفعها، وفي المثل: درهم وقاية خير من قنطار علاج، ومن لعب بنيران الفتن فتوشك أن تحرقه، ولذلك قيل: من أوقد نار الفتنة كان وقوداً لها، وقال بعض الحكماء: من سد فم الفتنة كُفي شرها، ومن أضرم نارها صار طعاماً لها.

والفتن قد تكون فتناً فردية خاصة، تواجه الفرد في خاصة نفسه، فيسعى في علاجها بما فتح الله عليه، وقد تكون فتناً عامة تواجه مجتمعات بأسرها، وهي أعظمها خطراً، وأشدها ضرراً، ولا تخلو العصور من هذه الفتن العامة، وقد تضافرت أقوال العلماء والحكماء والأدباء وجميع العقلاء في التحذير منها، لأن الأضرار المترتبة عليها كثيرة.

ومن أشنعها ما يتعلق بإزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وهتك الحرمات، فنجد أبا منصور الثعالبي أحد أئمة اللغة يصف الفتن وأحوال أهلها بقوله: "رَفعت الفتن أجيادها، وجمعت للشر أجنادها، النهار ليل بالدخان، والليل نهار بالنيران، كم فشا فيهم من قتل ذريع، وضُر وجيع، وهرب وجلاء، وضنك وبلاء، وانقطع شريان السياسة، وتمزق ثوب المعيشة"، وما أشبه هذا الوصف الأدبي القديم بما يجري اليوم في بعض مجتمعات المسلمين، وكأنه حكاية واقعهم الأليم، فرَّج الله عنهم أجمعين.

والمسلم يتألم لمصاب المسلمين أينما كانوا، فالمسلمون جميعاً كالجسد الواحد، تجمعهم أخوة إيمانية، ويتألمون لمصاب بعضهم، وإذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والعالم الإسلامي اليوم أحوج ما يكون إلى التضامن والتلاحم، قيادات وشعوباً، ليخرج من أزماته ويتعافى منها.

ومن فقه التعامل مع الفتن لزوم التعقل والحكمة، وعدم التهور والطيش، والانسياق وراء العواطف دون تأمل في العواقب، فالفتن لا تعالج بفتن، وفي الفتن تطيش العقول، وتثور العواطف، وتختلط الأمور، فلا غنى للمرء عن الأناة والتؤدة، وضبط اللسان، والتزام غرز العلماء وولاة الأمر، لقول الله تعالى : {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.

والمحافظة على سفينة الوطن وسط زوابع الفتن ضرورة مؤكدة، فالسعيد من اعتبر بغيره، وقد علمتنا الأحداث أن الثورات لم تأت بخير، ولن تأتي بخير، وأن ثقافة التصارع على السلطة والحكم ثقافة خطيرة، وباب شر عظيم، ومما ينبغي الحذر منه الإعلام الموجه والقنوات المغرضة، التي تتاجر بآلام الأمة، وتستغل الأحداث للتأليب على الحكام، والتحريض ضد استقرار الأوطان، وتهييج الناس على بعضهم، وتفريق صفهم، حتى تختلف آراؤهم، وينقسموا على أنفسهم، وقد يقاطع الأخ أخاه، والقريب قريبه، بسبب اختلاف مواقفهم من الأحداث، فعلينا ألا نلقي آذاننا لكل من هب ودب من إعلامي أو محلل أو غير ذلك.

وأن نزن كل ما يرد إلينا وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالموازين الشرعية والعقلية والمصلحية والوطنية، وأن نفكر بعقولنا قبل عواطفنا، فكم تبث وسائل التواصل من رسائل موجهة وإشاعات وأسباب للكراهية والأحقاد، وتوغر الصدور ضد ولاة الأمور، وتوهم الناس أن العلاج سهل ميسور كشربة ماء، وأن على الدول أن تفعل كذا ولا تفعل كذا، دون قراءة صحيحة للأزمات، وما يحيط بها من تعقيدات كبيرة تحتاج إلى ضبط أعصاب وحكمة للعلاج والخروج منها، وردود الفعل غير المنضبطة وإن كانت تنفس عن الصدور في أولها فإنها تجلب أضعافاً مضاعفة من الشرور في آخرها.

ومما ينبغي الحذر منه أوقات الفتن والنوازل الفتاوى الدينية التي تصدر من غير أهلها، فالمتعالمون والمتجرئون على الفتيا يفسدون ولا يصلحون، كما علينا أن نحذر من الذين يوظفون أحاديث ملاحم آخر الزمان بتحريفها عن دلالاتها، وتنزيلها على غير واقعها.

وإن الناظر اليوم في حال التيارات الإرهابية والطائفية يجد أن من سماتها البارزة التغرير بالأتباع بتوجيه أي وعد وبشارة في أحاديث آخر الزمان نحو تنظيماتها، وتوجيه أي وعيد ونذارة نحو مخالفيها، والله تعالى يقول: {ليس بأمانيكم}، وللفقه رجاله، وللعلم فرسانه، فلا ينبغي الاغترار بالدخلاء الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.

ومن أهم ما ينبغي التسلح به في الفتن الصبر، فإنه خير عدة، واللجوء إلى الله تعالى بالدعاء، والتضرع بين يديه بتفريج الكرب والبلاء، وتعليق القلوب به جل شأنه، وحسن الظن به، وعدم اليأس والقنوط من رحمته، فهو سبحانه قريب مجيب، قال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}، وإذا تأخرت الإجابة وطال الكرب فلحكمة ورحمة، فكم من محن في طياتها منح، وكم في الغيب من أسرار، ومهما اشتد الأمر فسيعقبه الفرج القريب، والله تعالى يقول: {إن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} ولن يغلب عسر يسرين.

نسأل الله تعالى أن يرفع الكرب عن المكروبين، ويفرج عنهم أجمعين، ويبدل خوفهم أمناً، وضيقهم فرجاً ومخرجاً.