الإلحاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
فإن من أعظم الحقائق حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى، فالفطر تدل عليه, والعقل الصحيح يبرهن على وحدانيته. قال تعالى ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1)
وقد تنوعت دلائل وجوده سبحانه, من فطرة سليمة تدعو إلى وجود خالف قدير تلجأ العباد إليه, وإلى حس مشاهد يبرهن على أنه قريب من عباده يستجيب دعاءهم, وينجيهم ويوفقهم لمصالحهم.
ولله في كـــــــــل تحريكةٍ |
وتسكينة أبدا شاهدُ | |
وفي كل شيء له آية |
تدل على أنه واحد |
فالله سبحانه وتعالى خلق آيات عظيمة في الكون تبين وحدانيته وتقر بوجوده, وتشهد بقدرته وقوته وحكمته, فلو لم ينحرف الإنسان عن فطرته لما احتاج إلى البحث عن أدلة وجود الله، فإنّ الفطرة الإنسانية تشهد بذلك. وما أحسن إجابة تلك العجوزة لما ذكر لها أن الفخر الرازي كان يحفظ ألف دليل على وجود الله, فقالت بفطرتها وبكل بساطة: (لو لَم يَكن عنده ألف شكّ لما احتاج إلى ألف دليل!)(2) فمعرفة الله، وإثبات وجوده، غير محتاج إلى إقامة أدلة كثيرة (3)
أسباب الإلحاد:
أسباب الإلحاد كثيرة جدا لكن أكثرها لا يخرج عن أربعة أسباب رئيسية:
السبب الأول: إغواء إبليس لبني آدم:
فإن إبليس أخذ عهدا على نفسه بالإغواء لبني آدم, قال تعالى ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص/82، 83].
قال ابن جرير: " يقول: لأضلَّنّ بني آدم أجمعين( إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) يقول: إلا من أخلصته منهم لعبادتك، وعصمتَه من إضلالي، فلم تجعل لي عليه سبيلا فإني لا أقدر على إضلاله وإغوائه". جامع البيان (21/241).
وقال تعالى ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر/39-42].
فيتضح من الآيات السابقة أن من اعتصم بالله عصمه الله من الضلال والانحراف, ومن سلم نفسه لوسوسات الشيطان فقد ضل الصراط المستقيم, واقتفى سبل الجحيم والعذاب الأليم.
السبب الثاني: الاغترار بأحوال الملحدين من حيث أفكارهم وحرياتهم المزعومة, وما يتعلق بأمور الدنيا من المخترعات والتكنلوجيا التي يساهمون فيها لخدمة البشرية. وبيان هذا الأمر في ما يأتي:
-
أولاً: قمة الحرية التي يتمتع بها الإنسان أن يكون عبدا لله تعالى وقد امتدح الله تعالى نبيه بهذه العبودية, قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء/1]
وقال تعالى ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾[الجن/19]، فقمة الحرية أن تنقاد لله خالقك, وتسير على وفق نظامة البديع الذي انزله في تشريعات الدين وأحكام الشريعة, فهو تنزيل من حكيم حميد, يعلم ما يحتاج إليه العبد وما يجب أن يكون عليه في أمر معاشه ومعاده. -
ثانياً: لم يمنع الإسلام من إقامة التطور التكنلوجي والاكتشافات العصرية النافعة, بل يحث الإسلام على هذا ولا يعارض هذا رسالة الإسلام ولا مسلماته العقدية , وأما العجر الحاصل فهو من المسلمين أنفسهم, وليس من تعاليم الإسلام, ففرق بين الإسلام وما يقبله ويدعو له ويجيزه, وبين أفعال المسلمين وما يقترفوه من تقصير وتكاسل وضعف.
-
ثالثاً: يفعل المسلم ما يفعل من أمور دينيه يريد بذلك الأجر من الله مع مافيه من نفع الناس بذلك, وهذا أعظم ممن يريد أمر الدنيا فقط. قال تعالى ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة/200-202]
السبب الثالث: التفرق بين المسلمين ونشوء الأحزاب الإسلامية:
لا شك أن التفرق ووجود الأحزاب الإسلامية من المنفرات لطائفتين من الناس:
أولهم المسلمين: فهو منفر لهم عن التمسك بالدين خوفا من الوقوع في الانحراف الذي عليه الأحزاب والجماعات الضالة. بل قد يؤدي إلى تنفير المسلمين من دينهم, أما الدعايات الكاذبة للاتجاهات الإلحادية الأخرى التي يستعملها أصحابها في الدعهوة إلى أنفسهم.
ثانياً: لغير المسلمين: فينفرهم عن الدخول في الإسلام : وهذا أمر واقع يدل عليه الحال في كثيرمن بلاد الإسلام, مما نراه من أفعال بعض المنتسبين للإسلام , من تفرق وتشرذم, مخالفين في ذلك لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى : ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران/103]، وقال تعالى ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم/31، 32]
ومن السنة : قوله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ "
وقوله صلى الله عليه وسلم : " قَالَ نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَحَمَلَهَا فَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ فِيهِ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ الْفِقْهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ".
السبب الرابع: ظهور الإلحاد بشكله الجديد المدروس المنظم كبديل لكل الأديان(4) :
فقد ظهر زعماؤه كبديل الجديد عن الأنبياء والرسل والمتمسكون بالإلحاد هم المتطورون المتقدمون والتاركين له هم الرجعيون المتخلفون وللباطل صولة ثم يضمحل فبعد تلك السنوات العجاف التي قوي فيها شأن الإلحاد والملحدين ظهرت الحقيقة للعيان وإذا بالإلحاد والملحدين ما هم إلا سماسرة اليهودية العالمية وأنهم يهدفون إلى استحمار العالم ومحو أخلاق الجوييم وتحطيم حضاراتهم وإبطال دياناتهم وكشأن كل المذاهب الباطلة والأفكار الجاهلية بدأ الموت يدب في جسم هذا الإلحاد البغيض وإذا بالناس يكتشفون زيف أقاويله وأفانين خدعة فبدؤوا يهربون منه زرافات ووحدانا وعرف الناس أن الإلحاد هو الذي سبب لهم الشقاء والفقر وتزايد الأحقاد والقلق والاضطراب وأنه هو الذي سهل للمجرمين طرق الإجرام وظهور الفتن والضلال إذ ليس فيه ثواب ولا عقاب في الآخرة ولا رب يجازي المجرمين بعذابه والمطيعين بثوابه فما الذي يمنع المجرم من تنفيذ جريمته وما الذي يجعل قلب الغني يشفق على الفقير وما الذي يمنع السارق والغشاش والخائن ومدمن المخدرات ما الذي يمنع هؤلاء من تحقيق رغباتهم. وللقارئ عظة مما يقع في العالم الملحد من أنواع الجرائم والظلم في جو مشحون بالتوترات والهموم قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124].
وإذا كانت المظالم والأنانيات وحب الشهوات وغيرها تحصل بين المؤمنين بالله تعالى فما هو الظن بالمجتمعات التي لا تؤمن بالله ربا ولا بالإسلام دينا ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، ولا ضمير حي يذكرها بما للآخرين من حقوق ما هو الظن بتلك المجتمعات الذين هم كالأنعام أو أضل الذين لا يعيشون في بيئات أسرية متحابة يعرف بعضهم للبعض الآخر ما له من حقوق صلة الرحم وحفظ الأنساب وتقوية المودة فيما بينهم. فأين الأولاد بعد أن ابتلعتهم دور الحضانات الحكومية، وأين الأزواج بعد أن تفرق الجميع في كل اتجاه تلبية لحاجاتهم المعيشية واللهو أيضا، وأين بقية الأقارب وقد تكفل الإلحاد بمحاربة أي وجود لذلك، وأين تلاحم المجتمع كله بعد أن تعهد الملاحدة بتفريق المجتمعات وضرب بعضهم بالبعض الآخر عن طريق الجاسوسية الهائلة إلى حد أن أي شخص لا يأمن الآخر بأي حال فأصبحت المجتمعات الإلحادية تعيش فيما بينها كما تعيش قطعان الذئاب أو السمك في البحر و على المسلمين أن يأخذوا العظة بغيرهم وأن يفروا من تلك الأفكار وصداقات زعماء تلك المجتمعات كما يفر الصحيح من المجذوم، بل وأشد، وأن يرجعوا إلى الله تعالى ويبتهلوا إليه أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.
(1) سورة إبراهيم, الآية: 10
(2) وتمام القصة: (أن الفخر الرازي مر ذات يوم في نيسابور, وكان معه أكثر من ثلاث مائة تلميذ خلفه، خرج بهم إلى السوق، وعجوز في بابها واقفة تنظر، فسألت واحداً منهم فقالت: منهذا الملك؟ فقال: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، يقول هذا الكلام ليعظمه في نفسها، فضحكت ساخرةً منه وقالت: يعرف ألف دليل؟! وهل وجود الله يحتاج إلى ألف دليل؟! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يعرف ألف دليل!). ينظر في ترجمة الرازي في كتاب: الاعلام للزركلي. (6/313).
(3) انظر: العقيدة في الله. د. عمر سليمان الاشقر ص 57 وما بعده
(4) انظر المذاهب الفكرية المعاصرة غالب عواجي 2/1011.