ماذا بعد رمضان؟
إن من سنة الله تعالى أن تتعاقب الأيام والشهور والأعوام، وهذا معناه زوال الدنيا، واقتراب الأجل، وارتهان العبد بالعمل، والدنيا أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وآجال مضروبة، والناس منها منتقلون، وإنما بقاؤهم للعمل، كما قال الله: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].
خطب حذيفة رضي الله عنه فقال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ، أَلَا وَإِنَّ الْغَايَةَ النَّارُ وَالسَّابِقُ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ"([1]).
فالدنيا زائلة، والموعد: إما جنة، وإما نار، فمن انتقل بالخير نال الخير.
ورب رمضان هو رب بقية الشهور، قيل لبِشْر: إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان؟ فقال: "بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها"([2]).
وقال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]([3]).
قال ابن رجب رحمه الله: "هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام، كلها مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعا، وتمضي جميعا، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها، باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد"([4]).
وقد أثنى الله تعالى على من استقام على العمل، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأحقاف: 13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»([5]).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»([6]).
وقد شرع الله الصيام للعباد لعلهم يتقون، والتقوى كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وأن يُذكر فلا يُنسى»([7]).
وعلامة تحصيلها: زيادة في الأعمال، وتغير في الأحوال إلى الأحسن، وإن من فضل الله تعالى علينا بعد رمضان أن شرع لنا صيام ستة أيام من شوال، ليكمل لنا مع رمضان أجر صيام عام، وهي أيضا من شكر الله تعالى على إتمام عدة رمضان، وتنبيه على الاستمرار على العمل الصالح، وحث على مبادرة الخيرات.
فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»([8]).
وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»([9]).
ويبدأ وقت صيامها من أول يوم بعد العيد، ويجوز سردها وتفرقتها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
([1]) رواه الحاكم وغيره.
([2]) جامع العلوم والحكم ص(222).
([3]) جامع العلوم والحكم ص(223).
([4]) جامع العلوم والحكم ص(223).
([5]) رواه مسلم.
([6]) رواه الحاكم.
([7]) رواه ابن أبي شيبة والحاكم والنسائي في الكبرى.
([8]) رواه مسلم.
([9]) رواه ابن ماجه.