وقفة بيان حول تلبس الإنسان بالجان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فإن مسألة تلبس الجني بالإنسي أمر دل عليه الكتاب والسنة؛ وعليه مضت تقريرات أهل العلم؛ وفيما يلي وقفات يسيرة في ذلك:
الوقفة الأولى: دل على هذا الأمر نصوص الكتاب والسنة.
فمن الكتاب: قول الله تعالى ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس ).
قال البغوي رحمه الله:"( لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) أي الجنون. يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا".
وقال ابن كثير رحمه الله:" أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا".
ومن السنة :
1- عن عطاء بن رباح قال : قال لي ابن عباس - رضي الله عنه – : ( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى ، قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي ، قال : إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ؟ فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف ، فدعا لها ) ( متفق عليه )
قال الحافظ بن حجر في الفتح :"وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها قالت : إني أخاف الخبيث أن يجردني ، - أي الشيطان - فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها ثم قال : وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط".
2- عن عثمان بن العاص - رضي الله عنه - قال : " لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف ، جعل يعرض لي شيء في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي فلما رأيت ذلك ، رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ابن أبي العاص ؟" قلت : نعم ! يا رسول الله ! قال : "ما جاء بك ؟" قلت : يا رسول الله ! عرض لي شيء في صلواتي ، حتى ما أدري ما أصلي قال : "ذاك الشيطان، ادنه" فدنوت منه فجلست على صدور قدمي قال ، فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي، وقال :" أخرج عدو الله ! " ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال : "الحق بعملك". ( صحيح ابن ماجة) .
الوقفة الثانية: وقع الإجماع على ذلك كما حكاه شيخ الإسلام رحمه الله، حيث قال رحمه الله: "وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة".
الوقفة الثالثة : مما يدل على ذلك واقع الحال من كلام الجني على لسان الإنسي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: "يا بني، يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه".
الوقفة الرابعة: على تقرير هذا الأمر مضى أهل العلم من أهل السنة والجماعة خلافا لغيرهم :
تقدم كلام الإمام أحمد بن حنبل في ذلك.
قال القرطبي رحمه الله بعد ذكر الآية : " في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : "ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي، وأبي بكر الرازي، وغيرهما دخول الجني في بدون المصروع، ولم ينكروا وجود الجن، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك، ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الجني يدخل في بدن المصروع، كما قال تعالى:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)".
قال ابن القيم في [زاد المعاد]: "شاهدت شيخنا -يعني ابن تيمية- يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول : قال لك الشيخ اخرجي فإن هذا لا يحل لك فيفيق المصروع".
ومن كلام المعاصرين: قال الشيخ ابن باز رحمه الله :" تلبس الجني بالإنسي أمر معلوم وواقع ، وأدلته كثيرة من الكتاب والسنة ، منها قوله سبحانه :( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ) الآية... وهكذا الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى كثيرة ، ومنها : حديث المرأة التي شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصرع وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها فقال لها إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت لك فقالت يا رسول الله إني أتكشف فادعوا الله ألا أتكشف فدعا لها عليه الصلاة والسلام .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" متفق على صحته.
وبهذا يعلم أنه لا يجوز إنكار تلبس الجني بالإنسي ؛ لأن ذلك مكابرة للواقع ومخالفة للأدلة الشرعية.
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله - بعد ذكره لحديث ابن ماجة آنف الذكر : "وفي الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ، ويدخل فيه ، ولو كان مؤمنا صالحا " [سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت حديث "2918"].
الوقفة الخامسة: ينبغي على العبد أن يتقي الله ويحكم الشريعة ونصوصها؛ وأن لا يعارض ذلك بدلالات عقلية ساقطة؛ أو أفكار بشرية قاصرة، بل التسليم والإذعان للنصوص هي سلوك المسلم الموحد الذي لا يقدم شيئا على النص والإجماع.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
جمعه:محمد بن غالب العمري
27/محرم/1435