الخلل في التشخيص وتأزيم الخطاب الديني
من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات اليوم تحديات الإرهاب والتطرف والجماعات الدينية المتشددة والتنظيمات المتطرفة، هذا التحدي الكبير الذي استحوذ على اهتمام مختلف الجهات والفئات والشرائح، وصار كلٌّ يدلي فيه بدلوه، ولا شك أنّ هذا الاهتمام والمشاركة لصد هذه الظاهرة أمر إيجابي في الجملة، لأن القضاء على الإرهاب مسؤولية مشتركة..
والتعاون فيه من آكد الأمور، سيما في هذه المرحلة، فالعلماء يدلون بدلوهم، وهكذا الأكاديميون والمثقفون والأدباء والشعراء والإعلاميون وغيرهم..
وهكذا أيضاً كل فرد قادر على أن يقوي صرح الجدار الصاد للتنظيمات المتطرفة يشارك بما يستطيع، ملتزماً التعبير السليم الذي يحقق هذا الغرض، سيما في مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم أشبه بمجسات لقياس المجتمعات وساحات لصد المتربصين الذين يستهدفون أمن المجتمعات واستقرارها، ويحاولون اغتيال عقول أبنائها وشبابها.
ومع هذا النشاط الإيجابي لمواجهة الإرهاب بأنواعه إلا أننا نجد إخلالاً عند البعض في تناول بعض مخرجات العلاج لذا رأيت أن أشير إلى بعض العناصر النقاط، التي نحتاجها في تعزيز التعاون البنَّاء في صد ظاهرة الإرهاب والتطرف، منها:
أولاً: التشخيص الصحيح لظاهرة التطرف والغلو وما يتعلق بها من أسباب ومؤثرات وتيارات ومؤثرين، فالتشخيص الصحيح نصف العلاج، وإذا كان من أخطر الأمور الاضطراب في الخطاب الديني وتوجُّهه للانحراف والتشدد لدى بعض المتصدرين له فهناك نسبة غير قليلة تتصدى لعلاج هذا الخطاب دون أن تملك تشخيصاً صحيحاً لهذه المشكلة يؤهلها لتقديم الطرح السليم.
ولهذا تأتي بمخرجات سلبية تجعل الخطاب الديني ينحو منحى الاضطراب بدل الاعتدال، وتخلط الحابل بالنابل في تصورات كثيرة، وتعاني من خلل في التصنيف، فلا تفرق بين الأسس التي تُبنى عليها الجماعات، فتخلط هذه الجماعة بتلك، وترمي هذه الفئة بما عند تلك الفئة، دون استناد إلى أي موازين موضوعية، مما يؤدي إلى اضطراب التصورات وقلب المفاهيم..
والتراشق وتبادل التهم، وإثارة الفتن، وخلق الطائفية، وإحداث التأزيم، وما يتبع ذلك من استخدام أساليب الاستثارة والاستهزاء والحدة المفرطة والهجوم المنفلت والذي يؤدي إلى ردات فعل غير منضبطة في المجتمع، فيضيع علاج التطرف والإرهاب وسط هذا الخلط والخلل والتراشق.
ثانياً: التصور الصحيح للمفاهيم الدينية، واستنقاذها من أيدي المتاجرين بالدين، فهناك مفاهيم عدة سعى المتطرفون لتزييف حقائقها، مثل الجهاد والولاء والبراء والخلافة وغيرها، والتعاطي مع هذه الملفات يقتضي دراية صائبة بتصوراتها الصحيحة أولاً، ومعرفة التصورات المغلوطة عنها ..
والتي يروجها المتطرفون وتفنيدها بالحجج الدامغة المقنعة ثانياً، حتى يكون العلاج سليماً فاعلاً، والمسؤولون عن ذلك بالدرجة الأولى هم شريحة العلماء الراسخين، الذين هم ورثة الأنبياء، وأهل الخبرة والاختصاص في هذا المجال، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعن أمنائهم وعلمائهم»، والخلل في تعاطي المفاهيم الدينية خطره كبير، وقد يؤدي إلى تأزيم الخطاب الديني، بل ودعم الخطاب الإرهابي..
فقد وجدنا من يزعم أن ما تقوم به داعش هو تطبيق لما في كتب التراث الإسلامي، وتطبيق لما كتبه أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم في مؤلفاتهم وتصانيفهم، حتى وجدنا من يطعن في الإمام الشافعي رحمه الله وغيره ويغمزه بالإرهاب والتطرف، ومثل هذا الطرح الباطل المناقض للحقيقة ..
والذي هو أوضح في البطلان من الشمس في رابعة النهار هو وقود ملتهب لإذكاء نيران التطرف والإرهاب في المجتمعات، وتوسيع رقعة هذا الفكر الأسود الدخيل، ودعاية مجانية لأهله، وأي جناية يكون قد اقترفها هؤلاء حينما يقتنع شاب بكلامهم فينساق وراء داعش ظناً منه أنه يتبع بذلك كتب التراث الإسلامي وتصانيف الأئمة الأربعة، كما أوهموه!
إن خطورة مثل هذا الطرح في وجهة نظري أنه يضع الشباب بل المجتمعات أمام حافة هاوية سحيقة ومنحدر شديد الانزلاق، لأنه يضع الجميع أمام طريقين: إما احترام التراث الإسلامي واحترام الأئمة الأربعة وبالتالي اتباع داعش وتصويب جرائمه بناءً على مزاعم هؤلاء، وإما هدم التراث الإسلامي ووصم الأئمة الأربعة وتصانيف أتباعهم بالإرهاب تخلصاً من فكر داعش؟!! وكلا الطريقين باطل.
نحن بحاجة إلى تجديد الخطاب الديني، بل نحتاج إلى ارتقاء شامل في جميع أنواع الخطاب، سواء الخطاب الديني أو الثقافي أو الإعلامي أو غيره لمواجهة خطر الإرهاب والتطرف..
ولكن نحتاج تجديداً منضبطاً يتفق مع الثوابت الشرعية لينقذ الشباب من التطرف، ويكشف زيف التيارات المتطرفة، ويحرر التصورات الدينية من براثنها، تجديداً يتصف بلغة مؤثرة مقنعة، وبطرح مميز راقٍ في مضمونه ومحتواه وطريقة عرضه، يقنع الشباب حقاً، ويصل إلى قلوبهم وعقولهم صدقاً، لا طرحاً معكوساً يوهم لهم أن أفعال داعش هي من صميم التراث الإسلامي!!
ثالثاً: مراعاة الحكمة في طرح القضايا والمسائل، فإنَّ من أسباب تأزيم الخطاب الديني طرح بعض المواضيع التي تحتاج إلى علاجٍ وبَسْطٍ في أماكن وساحات إلكترونية غير مناسبة، مما يؤدي إلى احتدام الجدال، وتوسيع الخلاف، ويتطاير شرره، في الوقت الذي يمكن احتواؤه ومعالجته وإزالة ما قد يكتنفه من اللبس وسوء الفهم إذا طُرح في مكانه الصحيح.
وأخيراً فإننا نحث أنفسنا ونحث الجميع على التحلي بالحكمة والأناة والموضوعية، فما أجمل أن يكون الإنسان عاقلاً بصيراً، يعرف بما يتكلم، ومتى يتكلم، وأين يتكلم، وماذا يترك، ليكون أثره إيجابياً مثمراً.