حتى نستفيد من القراءة
في بادرة ليست غريبة على قيادتنا الرشيدة وجَّه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله بأن يكون عام 2016 عاما للقراءة في دولة الإمارات، وذلك بهدف غرس الخبرات في الداخل، وتنشئة جيل متعلم قارئ ملم بأحدث وأفضل الأفكار في كافة القطاعات، وتنطلق هذه المبادرة من الأسس التي دعا إليها الشرع الحنيف..
حيث كانت أول كلمة نزلت من القرآن: {اقرأ}، في دلالة صريحة على أننا أمة القراءة والعلم، وأن من واجبنا الاهتمام بهذا الجانب في تلقي المعارف والعلوم، وأنَّ أي تقاعس في هذا المجال سيما إذا أدى إلى تأخرنا وتقدم غيرنا هو تقصير في حق الشرع وفي حق الأمة والوطن.
ومما يشجعنا على القراءة أن نعرف أهميتها ووظائفها، فالقراءة من الوسائل المهمة للنهوض بالمجتمع، ونقل التراث الحضاري من جيل إلى جيل، والربط الإيجابي بين الأمم والشعوب، ولها وظائف تربوية وتهذيبية كبيرة، فهي تسمو بالإنسان، وتنمي التفكير الإبداعي في مختلف ميادين الحياة، ولها أثرها العميق في بناء شخصية الفرد وميوله واتجاهاته وسلوكه..
ولذلك يقول المتنبي: «وخير جليس في الزمان كتابُ»، وقيل في الحِكَم: «الكُتب حصون العقلاء إليها يلجأون، وبساتينهم بها يتنزهون»، وكم سمعنا عن أناس قرؤوا كتابا واحدا فتغيرت حياتهم بالكلية إيجابا أو سلبا..
فهذا يعلو ويسمو بسبب كتاب متميز وُفِّق إليه، وهذا على النقيض بسبب كتاب حُشي بمادة مسمومة، وهذا ما يدعونا إلى تحري الكتب المفيدة التي نسمو بها ونكتسب مهارة وثقافة إيجابية، والتأكد من سلامة منهجية الكاتب، ومراعاة صحة المعلومات التي نستقبلها، فالكتاب غذاء العقل، ولا بد للغذاء أن يكون صحِّيًّا سليمًا.
ومما يشجع الإنسان على كثرة القراءة النظر في سير العلماء الذين ضربوا أروع الأمثلة في هذا المجال، فترتفع الهمة بذلك، فهذه فاطمة بنت الإمام الشافعي تقول: «أسرجتُ لأبي في ليلة سبعين مرة»، أي بسبب شدة شغفه بالقراءة والمطالعة، ويقول ابن الجوزي: «إني أُخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز، ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب»، ويقول أبو منصور الثعالبي: «كثيرا ما أذكرني آكل الوجبة وأنا أنظر في كتاب جديد وقع إليَّ، ولا أصبر عنه إلى وقت فراغي من الأكل»، ويقول أبو الوفاء ابن عقيل: «إني لا يحل لي أن أضيِّع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة وبصري عن مطالعة أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّره، وإني لأجدُ من حرصي على العلم وأنا في الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة».
وقد يتساءل المرء بعد هذا: كيف نستفيد من القراءة؟ إن أول ما نحتاجه للإجابة عن هذا السؤال أن نعرف: ما مفهوم القراءة؟ وما هو الهدف منها؟ إن القراءة عملية مهارية متكاملة، تشترك فيها العينان لرؤية الكلمات، واللسان للنطق بالألفاظ، والعقل لتفسير المعاني، والذاكرة لتخزين المعلومات، فلا تقف حدود القراءة عند النطق بالألفاظ من أجل جودة الإلقاء والأداء..
وإن كان هذا مطلبا أساسيا، وإنما تتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو اكتساب المعارف والمعلومات والخبرات المفيدة عبر النشاط الذهني والعقلي والوجداني الذي يصاحب القراءة الهادفة الواعية..
وترجمة ذلك إلى مواقف وسلوكيات تضيف بصمة إيجابية إلى الحياة، بحل مشكلة، أو معالجة قضية، أو تجاوز عقبة، أو تحسين أداء، أو ابتكار فكرة، ونحو ذلك، فاقتناعك بهذا المفهوم العميق للقراءة حافز لك لجعل القراءة وظيفة أساسية في حياتك.
ولكي ننجح في ذلك فلا بد أن تكون قراءتنا قراءة واعية ترتكز على الفهم والاستيعاب، والقارئ الجيد يستغرق بكل جوارحه فيما يقرأ، ويقاوم تشتت الذهن، ومما يعين على ذلك التحلي بالصبر والتحمل، خاصة في بداية المشوار، ثم يسهل الأمر بتدريب العقل على كثرة القراءة، ومما يعين على ذلك اختيار المكان الهادئ الصحيح، وتكوين فكرة مبدئية عن مضمون الكتاب..
والحرص على التقاط الأفكار والعناصر الأساسية للموضوع، فرُبَّ صفحة أو صفحات ترتكز على فكرة لا تتجاوز سطرا أو سطرين إذا فهمتها سهل عليك فهم الصفحات برمتها.
ومما نحتاجه أيضا كي نستفيد من القراءة إجادة مهارة الاحتفاظ بقدر كبير مما نقرأ، سيما المعلومات المهمة، وتدوين الفوائد والملاحظات، فقد تمر عليك فائدة نفيسة في كتاب ما، فإذا لم تحفظها أو تدونها ضاعت منك، وقد تبحث عنها مجددا فلا تجدها، ولذلك قال الشاعر: «العلم صيدٌ والكتابة قيدهُ.. قيِّد صيودك بالحبال الواثقةْ».
ولا ننسى التنويه بدور الأسرة في هذا الجانب، فمما يساعد الأطفال على القراءة والكتابة وجودهم في بيئات منزلية غنية ثقافياً توفر فيها الأسرة أدوات القراءة والكتابة من المواد المطبوعة من كتب ومجلات وغيرها، وقد قال الشاعر: «وينشأ ناشئ الفتيان منَّا... على ما كان عوَّده أبوهُ».
وأخيرا نختم المقال بمقولة صاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله: «سيبقى مفتاح الازدهار هو العلم، وسيبقى مفتاح العلم هو القراءة، وستبقى أول رسالة من السماء للأرض هي اقرأ».