وصايا مهمة في الفتن
لا يخفى على البصير أن الفتن أمرها خطير، وشرها مستطير، وهي محنٌ وبلاءٌ واختبار، تتميز فيها المعادن الأصيلة، والعقول السديدة، التي تصون نفسها ومجتمعها ووطنها من الشرور والأخطار، وتتحلى بالصفات الإيجابية التي تحقق السلامة والاستقرار، فالأناة هديها، والحكمة نهجها، ونشر أسباب المحبة والوحدة هدفها، والإيمان واليقين والعلم النافع المستنير سلاحها، فهي تبحث عن إطفاء نيران الفتن متى اشتعلت، وتسعى لتخفيف أضرارها، ودرء شرورها ما أمكن، وتجتهد قبل ذلك في سد ذرائعها، والتصدي لمسبباتها، إذِ الوقاية خير من العلاج، وقد أمرنا نبينا عليه السلام بالاستعاذة من الفتن، وبين لنا العواقب الحميدة المترتبة على اجتنابها، والعواقب الوخيمة الناجمة عن الخوض فيها.
والمتأمل اليوم يجد أن المؤثرات السلبية تنامى وتتنوع، ولهذا رأيت تذكير نفسي ببعض الوصايا التي أراها مهمة لي ولكل مسلم غيور على دينه ووطنه في أوقات الفتن، ومن ذلك:
أولاً: الرجوع إلى الله تعالى، وتقوية الصلة به، فهو سبحانه بيده كل شيء، وهو الحكيم القادر، يقدِّر في كونه ما شاء، ويقلِّب القلوب كيف شاء، لحكمة بالغة باهرة، وهو الخافض الرافع، الضار النافع، المعطي المانع، فلا رافع لمن خفض، ولا خافض لمن رفع، ولا نافع لمن ضر، ولا ضار لمن نفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لمن منع، أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، التمسك بشرعه حبل النجاة، من تشبث به هُدي، ومن تركه غَوي، ومن اتَّبعه سلم من الزَّيغ والتّيه، قال سبحانه: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}، وقد اشتمل شرعه المحكم المتين على المحاسن الجمَّة، والأمور المهمَّة، التي تهدي إلى الرشاد، وتقود إلى الاعتدال والسداد، وتصون من الإفراط والتفريط، وقد وعد الله من اتقاه بإنارة البصيرة، والهداية إلى المعاني الناصعة المنيرة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} أي: يوفقكم لمعرفة الحق من الباطل، فيكون ذلك سبباً لنجاتكم في الدنيا، وسعادتكم في الآخرة.
ثانياً: العناية بالدعاء، فهو خير عُدَّة في الرخاء والعناء، فما أحوجنا إلى أن نكثر من الدعاء في حياتنا، لنكون مع الله في كل شؤونا، نستمد منه العون والسكينة والتفاؤل والأمل، فتكون قلوبنا مضيئة مشرقة، ويقيننا ثابتاً صلباً، لا تزلزله الفتن، ولا تضعفه المحن، بل يزداد قوة ورسوخاً بكثرة الدعاء واللجوء. وقد أرشدنا النبي عليه الصلاة والسلام إلى أمر مهم في الدعاء فقال: «قل اللهم اهدني وسددني، واذكُرْ بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم» رواه مسلم، أي: علينا أن ندعو الله ونحن نستحضر معاني ما نقول أتم استحضار، فإذا سألنا الله الهدى استحضرنا بقلوبنا هداية الطريق وسلوكه على النهج المستقيم، لنصل إلى الغاية المقصودة سالمين آمنين، وإذا سألناه السداد استحضرنا بقلوبنا سداد السهم ودقة إصابته للهدف، وفي ذلك حثٌّ لنا على أن نسأل الله غاية الهدى ونهاية السداد، ليوفقنا
للآراء الدقيقة الصائبة والمسالك الصحيحة الراجحة في التعامل مع المسائل والأحداث؛ لنكون نافعين لأنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ووطنا وأمتنا والإنسانية جمعاء.
ثالثاً: التفاف الشعوب حول قياداتها، فهو حصانة من الفتن والاضطراب، فمتى كان الحاكم والمحكوم على قلب رجل واحد استتب الأمن والاستقرار، وحصل الرخاء والازدهار، وتكسرت أمواج الفتن على صخرة الوحدة والترابط، وقد حبانا الله تعالى بحمده بقيادة رشيدة، وهبها البصيرة النافذة، والرؤية الثاقبة، في التعامل مع القضايا والأحداث المتجددة، فهي تتحرى المصالح العليا والمقاصد الكبرى، وتحرص على حسن النظر في مصالح العباد والبلاد، وفي شؤون الأمة وقضاياها.
رابعاً: الحذر من المنظمات الإرهابية والمنظمات ذات الأجندات الخفية، ففي أوقات الفتن تنشط التنظيمات المختلفة التي تسعى للإضرار بالشعوب والأوطان، وتزداد وتيرة أنشطتها لاغتيال العقول والتأثير فيها، ومحاولة اصطياد النفوس الضعيفة، والمتاجرة بالآلام والجراحات، وإثارة العواطف وتهييجها، ومن وسائل التصدي لهذه التنظيمات تحصين العقول بالعلم والوعي، وتقوية النفوس بالصبر واليقين، وتهذيب العواطف بالحلم والروية، فترجع حينها هذه التنظيمات خائبة مدحورة.
خامساً: الحذر من الشائعات والمؤثرات السلبية، ففي أوقات الفتن تكثر الشائعات المغرضة، وتنتشر الفتاوى المضللة، والعاقل يحذر من ذلك، ويتفطن لأضراره، فإن الشائعات تلعب دوراً سلبياً خطيراً، وبالخصوص في أوقات الأزمات والحروب، حيث تحرص الجهات المعادية على توظيف الشائعات بشتى الطرق لتحقيق أجنداتها والإضرار بغيرها، وذلك لأهداف كثيرة، منها: كسر الروح المعنوية للمجتمعات، وزعزعة الثقة بالحكومات، ومحاولة التأثير في العواطف والاتجاهات، وتفكيك النسيج المجتمعي، وتأجيج الخلاف الداخلي، ولذلك فلا بد من اليقظة والانتباه، ودفع كل كلمة تستهدف الدين والوطن.
سادساً: البعد عن أسباب الشقاق والخلاف، فإن أهل الفتن يسعون جاهدين إلى بث أسباب الفرقة في المجتمعات، وإشعال نار العداوات، لإيغار الصدور بعضها على بعض، وتأجيج الصراعات الداخلية، وتمرير الأجندات الطائفية، لتنتشر الفوضى، ويذهب الأمان، وتضيع المصالح والحقوق، والعاقل ينتبه لذلك، فيسعى لرأب الصدع، وتعزيز أسباب الوفاق، وجمع القلوب على كلمة سواء، ليكون البيت متوحداً، والصف متلاحماً، فلا يجد الأعداء ثغرة ينفذون منها لبث سموم الفرقة والخلاف.
نسأل الله تعالى أن يحفظ أوطاننا، ويديم علينا الأمن والأمان وعلى سائر بلاد المسلمين.