إعلام الجماعة بتوضيح حديث ((فلا سمع ولا طاعة))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد ظهر في الآونة الأخيرة من يشغب على ولاة الأمر، ويدعو لإثارة الفتنة بالخروج عليهم وعدم طاعتهم، ملبسًا على عامة الناس بجملةٍ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة))، رواه البخاري ومسلم.
ومدعيًا أن المراد بالحديث أن الإمام والحاكم تسقط طاعته وولايته مطلقًا إذا أمر بمعصية.
ومن المقرر عند العلماء الراسخين أن المراد بهذا الحديث هو: عدم جواز الطاعة للحاكم في خصوص المعصية التي يأمر بها، كأن يأمر بشرب الخمر مثلاً، فلا تجوز طاعته في هذه المعصية بعينها، وليس المراد هو سقوط الطاعة له جملةً وتفصيلاً.
وقد نقل العلماء الإجماع على وجوب الطاعة في المعروف، وعلى تحريم الخروج على الحاكم الظالم، مما يجعل المسلم على يقين بأن المراد هو عدم الطاعة في خصوص المعصية فقط.
وتقريرًا لهذا الأصل والإجماع، أسوق في عجالة بعض أقوال العلماء الأجلاء لتوضيح الأمر وبيانه:
بوَّب الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم على هذا الحديث وأحاديث أخر بقوله: ((باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية))، وقال رحمه الله: ((أجمع العلماء على وجوبها في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون)).
ثم إن من منهج العلماء الربانيين الراسخين في العلم: الجمع بين الأحاديث النبوية، وحمل المطلق منها على المقيد، وعدم ضرب بعضها ببعض، وفي هذا يقول الإمام النووي رحمه الله في شرحه لحديث ((عليك السمع والطاعة)): ((قال العلماء: معناه تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره، مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية، فلا سمع ولا طاعة، كما صرح به في الأحاديث الباقية، فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية)). شرح مسلم 12/428.
وقال رحمه الله: ((وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة أيضًا، فغلط من قائله مخالفٌ للإجماع، قَالَ الْعُلَمَاء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الْفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أَكثر منها فِي بقائه)).
وقال رحمه الله: ((وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بِذلك، بل يجب وعظه وتخوِيفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك)).
قال الإمام ابن عبد البر كما في الاستذكار: ((وأما جماعة أهل السنة وأئمتهم فقالوا هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عالما عدلا محسنا قويا على القيام كما يلزمه في الإمامة، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي الدهماء وتبييت الغارات على المسلمين والفساد في الأرض وهذا أعظم من الصبر على جور الجائر)).
قال حرب في العقيدة التي نقلها عن جمعٍ من السلف: ((وإن أمرك السلطان بأمرٍ فيه لله معصية، فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه، ولا تمنعه حقه)). حادي الأرواح لابن القيم
وبعد، فهذه طريقة العلماء المصلحين الصادقين ذوي الروية، وهذه مسالكهم في فهم النصوص الشرعية واضحةٌ جلية، فأنت ترى فيها علمًا ونورًا واتباعًا، ومراعاةً للمصالح والمفاسد، وحفظًا للحقوق، وحمايةً للدماء والأعراض والأموال، فعليك بها ففيها النجاة بعون الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه محبكم: خالد بن حمد الزعابي.