ابتذال الخطاب الدِّيني
الخطاب الديني القويم هو الخطاب الوسطي المعتدل الذي يهدف إلى إيصال الشرع الإلهي إلى الناس، بالأسلوب الأمثل الذي يحبِّبهم فيه، ويحقق لهم الخير والصلاح والسعادة، وفق ما أخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو بعيدٌ كلَّ البعد عن أيِّ نوع من أنواع الابتذال أو الاستغلال، بتأويل بعيد، أو تحريف مغلوط، أو إضرار بمصالح العباد والبلاد، وهو خطاب راقٍ جاء لبناء الإنسان والنهوض به، ليتحلى بالتعامل الجميل مع خالقه ومع الخلق أجمعين، وهو خطاب متكامل يلامس الفطرة والعقل والوجدان، ويقوم على مبدأ الإخلاص والتجرد في الدعوة والتوجيه.
ولهذا فإنَّ من التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية ابتذال الخطاب الديني من قبل بعض الفئات التي تسعى لاختطاف هذا الخطاب، وممارسته بمعزل عن ضوابطه الصحيحة، وأسسه القويمة، وأهدافه النبيلة، وذلك في صور سلبية مختلفة متنوعة تلحق الضرر بالفرد والمجتمع ولربما بالبعد الأمني للوطن، منها على سبيل المثال:
أوَّلاً: تكريس الخطاب الحزبيِّ والطَّائفيِّ، الذي يحرِّض على تقسيم المجتمعات إلى أحزاب متنازعة وطوائف متصارعة، ويسعى إلى هدم النسيج المجتمعي، ونشر أسباب الكراهية والبغضاء، ويرسخ للولاءات الضيِّقة والعصبيَّات العمياء، ويستخدم الدِّين مطيةً لتحقيق المنافع والمصالح الحزبية والطائفية.
ثانيًا: تغذية الخطاب الإرهابيّ المتطرِّف، الذي يقوم على الغلو والتشدد، ويحرِّض على العنف والإرهاب، ويستبيح الدماء والأعراض والأموال، ويحرِّف المفاهيم الدينية كالجهاد والولاء والبراء وغيرها، ويسعى إلى التغرير بالشباب واستقطابهم للقتال في مناطق الصراع، وخدمة التنظيمات الإرهابية التي تسعى لإثارة الفوضى والقلاقل وتهديد السلم والاستقرار هنا وهناك.
ثالثًا: إذكاء الخطاب التَّكفيريّ، الذي يكفِّر المسلمين، ويتَّهم مجتمعاتهم بالجاهلية، ويدعو إلى اعتزالها، ويكفِّر الدُّول الإسلامية والموالين لها والعلماء المدافعين عنها.
ثالثًا: تكريس الخطاب الثَّوريّ، الذي يروِّج لإسقاط الأنظمة والثورة عليها، والتحريش بين الحكام والمحكومين، ويعتبر ذلك هي الوسيلة المثلى نحو التغيير والارتقاء، وقد أثبت الواقع المرير أنَّ هذه الثَّورات المشؤومة أضرَّت بالمجتمعات الإسلامية غاية الضرر ، وأدخلتها في دوامة من الصراعات التي راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء والآمنين، وجلبت لها الشرور والكوارث والويلات.
رابعًا: دعم الخطاب الحماسيّ المفرط، الذي يقوم على أسلوب الشَّحن العاطفي، وتهييج المشاعر، والغلو في جانب الوعظ من دون انضباط بالشَّرع ولا إرشاد صحيح، وقد نبَّه العلماء على خطورة مثل هذا الطرح الذي يقوم على الشَّحن والتحريض بعيدا عن التوعية والتوجيه. يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ومن الوعَّاظ من يحثُّ على الزُّهد وقيام اللَّيل، ولا يبيِّن للعامَّة المقصود، فربَّما تاب الرَّجل منهم وانقطع إلى زاويةٍ أو خرج إلى جبلٍ فبقيت عائلته لا شيء لهم".
خامسًا: إذكاء الخطاب الفوضويّ الشَّاذّ، الذي يُصادم نصوص الشَّرع، ولا يعتدُّ بتقريرات الفقهاء وإجماعاتهم، ولا يلتزم طرق الاستنباط الصَّحيحة، ولا يعترف بضرورة توفُّر أهليَّة الاستنباط وآليته، ويأتي بالفتاوى الشَّاذَّة والأقوال المخترعة، وقد نبَّه المجمع الفقهي الإسلاميُّ في دورته السابعة عشرة على أنَّ من أسباب الإرهاب اتِّباع الفتاوى الشَّاذَّة والأقوال الضَّعيفة والواهية، وأخذ الفتاوى والتَّوجيهات ممن لا يوثق بعلمه أو دينه، والتَّعصُّب لها.
سادسًا: نشر الخطاب الخرافيّ، الذي يروج الخرافات والأوهام التي تخالف الشرع وتصادم العقل، وقد أثبت التاريخ أن هذا النوع من الخطاب تم استخدامه من قبل بعض التنظيمات الباطنية لخداع النَّاس والتَّغرير بهم ومحاولة التَّحكُّم فيهم والسيطرة عليهم، ومن هذا القبيل خطابات المشعوذين والدجالين ومن يدَّعون علم الغيب، وقد رأينا نماذج من هؤلاء في خضم الفتن والأحداث وهم يحاولون الترويج لبعض الخطط والأجندات تحت ستار التنبأ بالغيب.
سابعًا: استخدام الخطاب المفرط في تقديس العقل الفرديِّ، ولو على حساب المنقولات الصَّحيحة والإجماعات المعتبرة، والمعقولات الرَّجيحة والمصالح الضرورية.
ثامنًا: تمكين الخطاب الانهزامي، الذي يعاني من عقدة النَّقص تجاه الهوية الإسلاميَّة والعربية، وذلك نتيجة وقوعه فريسةً لهيمنة ثقافات أخرى دخيلة، فهو من أجل ذلك يسعى لخلخلة الثوابت الشرعية، والقيم العروبية، وتحريف دلالات نصوص الشرع، لتناسب مع مقتضى المفاهيم والتصورات التي وقع تحت سيطرتها.
تاسعًا: أن يكون الخطاب صحيحاً في مضمونه ضعيفاً في طرحه وأدائه، ومن صور ذلك أن يورد المخاطِب الشُّبهات في غاية من القوَّة والظُّهور، ولا يجيب عنها إلاَّ بأجوبة ضعيفة لا تناسب مستوى الشُّبهات المذكورة، فيكون كمن يروِّج لهذه الأفكار المغلوطة من حيث لا يشعر.
إلى غير ذلك من أنماط كثيرة من الخطابات التي تحتاج إلى معالجة ونقض وتصحيح، وكثيرٌ من الاتِّجاهات السابقة هي في عمومها غير مقتصرة على الخطاب الدِّينيِّ فقط، بل تأتي في قوالب دينية وفكريَّة وثقافية مختلفة، فالحزبيَّة والثَّوريَّة والعنف والآراء الشَّاذَّة والعقلانيَّات الفاسدة والأساليب العاطفيَّة المفرطة لها وجودٌ في أدبيَّاتٍ كثيرةٍ تسعى للانتشار وغزو العقول.
ولهذا فإنَّ ما نحتاج إليه هو الخطاب الوسطيُّ المعتدل الواعي العميق، الذي يُظهر المعاني الصَّحيحة في أحسن صورة، ويحافظ على هوية الأمة وعقيدتها الصافية وثقافتها المعتدلة، ويحقق المصالح العليا للشعوب والأوطان.