صلاة التراويح مشروعيتها وفضلها والرد على المفتري القائل ببدعيتها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير خلق الله أجمعين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين،،، وبعد
فإن من أعظم العبادات التي حث عليها ديننا الحنيف ورغب فيها في شهر رمضان: قيام الليل، فقد أكد عليها رسول الله ﷺ تأكيداً بالغاً بقوله وفعله، فقالَ ﷺ: «مَنْ صامَ رمضانَ إيماناً، واحتساباً، غُفِرَ له ما تَقَدّمَ مِنْ ذنبهِ، ومَنْ قامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لهُ ما تَقدّمَ مِنْ ذَنبِه» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقال ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه.
وهذا الفضل الوارد وهو مغفرة الذنوب مشروط بأمرين:
- أن يكون الحامل على الصوم والقيام؛ هو الإيمان والتصديق بثواب الله تعالى.
-وأن يحتسب العمل عند الله تعالى ويخلص له فيه.
وقيام رمضان إذا فُعل جماعةً في المسجد فإنه يُسمى بصلاة التراويح.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: ”سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ التَّرَاوِيحَ، لِأَنَّهُمْ أَوَّلَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ بَيْنَ كُلِّ تَسْلِيمَتَيْنِ“[فتح الباري: ج4 ص250].
وصلاة التراويح هي من جملة قيام الليل، لكنها اختصت وتميزت عن قيام الليل بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن النبي ﷺ فعلها في رمضان، حيث أنه صلى في المسجد ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ ﷺ فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» متفق عليه.
وفعلها الصحابة رضي الله عنهم من بعده فُرادى وجماعات إلى صدرٍ من خلافة عمر رضي الله عنه، ثم جمعهم عليها خلف إمام واحد، فعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال: خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: ”إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ“ ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: ”نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ“. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. رواه البخاري.
الأمر الثاني: ثبت في فضلها أنه من صلاها مع الإمام حتى ينصرف؛ كُتب له قيام ليلة، كما في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا، حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي السَّادِسَةِ، وَقَامَ بِنَا فِي الخَامِسَةِ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ..» رواه الترمذي.
الأمر الثالث: الاجتماع عليها فيه عون للمسلم على قيام رمضان، وتنشيط له فيداوم عليها طيلة الشهر، فإنه لو صلى كل واحد لوحده لتكاسل عنها كثير من الناس، ولحُرموا أجر قيام الليل في رمضان، والمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، والنبي ﷺ يقول في فضل الاجتماع: «عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ» رواه أحمد والترمذي.
بعد هذا العرض لمشروعية صلاة التراويح في رمضان، خرج علينا من لم يُعرف بعلم، ولم يُعرف بحرص على اتباع السنة، فقد انتشر له مقطع مرئي قال فيه:
"ليس هناك في الإسلام ما يُسمى تراويح.. لا في زمن الرسول، ولا في زمن أبي بكر، ولا في زمن عمر نفسه"؟!
فقلتُ متعجباً!! أما مسألة التسمية وأنه لا يوجد ما يُسمى بالتراويح!! فهذا من جهله بمعاني اللغة، وجهله بما ثبت عن السلف رحمهم الله تعالى في ذلك، مما تعارفَ عليه المسلمون خلفاً عن سلف إلى يومنا هذا.
أما ثبوت هذه التسمية عن السلف، فإن ذلك موجود متضافر من كلامهم ومبثوث في كتبهم، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1. جاء في كتاب الفقه الأكبر المنسوب لأبي حنيفة رحمه الله تعالى (ت: 150هـ) أنه قال: ”ذِكْرُ بعضٍ من عقائِدِ أهلِ السّنة: وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ سنةوالتراويح فِي ليَالِي شهر رَمَضَان سنة وَالصَّلَاة خلف كل بر وَفَاجِر جَائِزَة...“ [الفقه الأكبر: ص45].
2. وجاء في مصنف ابن أبي شيبة (ت:235هـ): باب ”فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ“.
3. وفي صحيح البخاري (ت:256هـ): ”كِتَابُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ“.
4. وفي مسائل الإمام أحمد (ت:275هـ) رواية أبي داود السجستاني: قال ”بَابُ: التَّرَاوِيحِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ أَوْ وَحْدَهُ؟ قَالَ: يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ. وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا، يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرَ مَعَهُ“ [ص90].
5. وفي مختصر اختلاف العلماء للإمام الطحاوي (ت:321هـ) قال: ”كره الإمام أحمد الصلاة بين التراويح“ [ج4 ص386].
6. وقال الإمام أبو عبد الله القحطاني المالكي (ت: 378هـ) في نونيته المشهورة:
إِنَّ التَّـــــــــــــــــرَاوِحَ رَاحَةٌ في لَيْلِهِ |
|
وَنَشَاطُ كُلِّ عُوَيْجِزٍ كَسْـــــــــــلاَنِ |
وَاللهِ مَا جَعَلَ التَّرَاوِحَ مُنْكَرًا |
|
إِلاَّ الْمَجُوسُ وَشِيعَةُ الصُّلْبَانِ |
7. وثبت في كتاب اللبُاب للمحاملي الشافعي (ت:415هـ) أنه قال: ”اعلم أن الصلاة على خمسة أنواع: فرض على الكافّة، وفرض على الكفاية، وسنة، ونافلة، ومكروهة“... قال: ”وأما السنة فعشرون نوعا:“ ثم ساقها وذكر منها: ”وقيام الليل، والتراويح“ [ص93].
8. وقال الإمام الماوردي الشافعي (ت:450هـ): ”أما الأصل في قيام شهر رمضان، وهي صلاة التراويح ما روي أن النبي ﷺ“ ثم ساق حديث أبي ذر رضي الله عنه. [ج2 ص290].
أما زعمه بأنه لا وجود لهذه الصلاة في زمن الرسول ولا في زمن أبي بكر ولا في زمن عمر، بل وقال: "لو كانت سنة أو أرادها ﷺ أن تُفرض لاستمر فيها"؟!
فهذا الكلام باطل من وجوه:
الوجه الأول: لا يُعلم عن أحدٍ من أهل العلم أنه قال بفرضيتها، بل إن النبي ﷺ ما تركها جماعة إلا خشية أن تفرض، أما كونها سنة فقد قال الإمام النووي (ت:676هـ) رحمه الله تعالى: ”صلاة التراويح سنة بإجماع العلماء“ [المجموع: ج3 ص526].
الوجه الثاني: ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم القيام بها منذ عهد النبي ﷺ، قال الإمام الماوردي: ”وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْمَعُ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ، وَالْعَشْرَ الثَّانِيَ وَيَتَخَلَّى لِنَفْسِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ، إِلَى أَنْ قَرَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنه وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا“ قال: ”فصارت سنّة قَائِمَةً، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَئِمَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ سُنَّةٍ سَنَّهَا إِمَامٌ“ [الحاوي: ج2 ص290].
الوجه الثالث: على فرض التسليم بأنه لم يثبت عن الصحابة فعلها حتى جاء عمر رضي الله عنه فجمع الناس عليها؛ فإن هذا لا ينفي كونها سنّة ثابتة لأن النبي ﷺ قال عن السنن التي سنّها الخلفاء الراشدون: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عضوا عليها بالنواجذ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضلالة في النار» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وفي لفظ عند أحمد: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ». إذن فهي سنة ثابتة عن ثلاثة من الخلفاء الراشدين عمل بها عمر وتبعه عليها عثمان وعلي رضي الله عنهم.
والغريب أن هذا الرجل قال:
"أنا لا أتكلم إلا عن حقائق وأَجَيب الأدلة كعين الشمس؟؟!!".. قال: "وأن عمر قال للصحابي الذي معه" يقصد عبد الرحمن بن عبدٍ القاري قال له: "نِعم البدعة هذه، عمر نفسه سماها بدعة"؟! قال: "وأن عمر رضي الله عنه قال للصحابي الذي معه: انظر نعم البدعة هذه، ولكن الذي ينامون عنها أفضل منها".
وهنا أقول: هذا الرجل جاهل جهلا مركبا، فهو مع جهله؛ يجهل أنه جاهل ويظن نفسه عالماً، دليل ذلك عدة أمور:
الأمر الأول: أن عمر رضي الله عنه لم يقصد بقوله: ”نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ“ البدعة بالمعنى الشرعي المذموم، على أنه ثبت في طبقات ابن سعد بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه قال: ”لَئِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً لَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ“، فدل على أنه رضي الله عنه لم يرد البدعة المذمومة وإلا فكيف له أن يأمر الناس بشيء ثم يصف ذلك الشيء بأنه بدعة مذمومة؟! وكيف لعثمان وعلي رضي الله عنهما أن يتابعاه على هذه البدعة إن كانت مذمومة؟!
وعليه فإن مقصود عمر رضي الله عنه هو المعنى اللغوي، أي: نِعْمَ هذا الاجتماع على الصلاة الذي ابتدأه هو ولم يكن موجودا قبله في زمن أبي بكر وإنما سنّه رسول الله ﷺ.
ثم إنه رضي الله عنه امتدحها بقوله: "نعمَ البدعةُ هذه" لما فيها من وجوه المصالح التي تقدم ذكرها، فكيف له أن يمتدح شيئاً مذموما؟!
الأمر الثاني: النبي ﷺ لما سنّها ثم تركها، لم يتركها لأنه لا يُحبُ أن يستمر عليها، أو أنه لا يجوز لأحد أن يفعلها بعده في جماعة، وإنما تركهاﷺ رأفة ورحمة بهذه الأمة مخافة أن تُفرض عليهم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيَدَعُ العَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ..».
وقد تقدم من كلام الماوردي فِعْلُ الصحابة رضي الله عنهم في زمنه ﷺ وزمن أبي بكر ولم ينكر عليهم أحد، فدل على أنها سنّة مستحبة.
قال أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله (ت: 474هـ) في قوله: «فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ»: ”لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِإِقْرَارِهِ لَهُمْ فِي اللَّيْلَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ بأِنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِم،ْ فَإِذَا زَالَتْ الْعِلَّةُ بِانْقِطَاعِ الْفَرْضِ بَعْدَهُ؛ ذَهَبَ الْمَانِعُ، وَثَبَتَ جَوَازُ الِاجْتِمَاعِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ“ [المنتقى للباجي ج1 ص205].
الأمر الثالث: قول عمر رضي الله عنه : ”وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ“. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
فإنه تفضيل لوقت أدائها ولا يدل على عدم استحبابها، ففِعْلُها في آخر الليل أفضل من فِعْلِها في أوله، وهذا لا شك فيه، فإن صلاة آخر الليل أفضل لما فيها من ثناء الله عز وجل على المستغفرين بالأسحار، وأنه وقت تنزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا.
قال الإمام العراقي (ت: 806هـ) في طرح التثريب: ”وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ: لَيْسَ فِيهِ تَرْجِيحُ الِانْفِرَادِ وَلَا تَرْجِيحُ فِعْلِهَا فِي الْبَيْتِ وَإِنَّمَا فِيهِ تَرْجِيحُ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ“ [ج3 ص96].
الأمر الرابع: مسألة: ما هو الأفضل للمسلم أن يصليها جماعة أو يصليها منفرداً في منزله؟ تكلم فيها العلماء واختلفوا في ذلك، ولكن الذي يترجح فيها، هو استحبابها جماعة وهو مذهب جمهور العلماء.
بل إن بعض العلماء قال: ”لَوْ امْتَنَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَنْ إقَامَتِهَا كَانُوا مُسِيئِينَ وَلَوْ أَقَامَهَا الْبَعْضُ فَالْمُتَخَلِّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ تَارِكٌ لِلْفَضِيلَةِ“ [طرح التثريب].
قال أبو داود السجستاني: ”قِيلَ لِأَحْمَدَ، وَأَنَا أَسْمَعُ: يُؤَخِّرُ الْقِيَامَ، يَعْنِي: التَّرَاوِيحَ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: لَا، سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُومُ مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُوتِرَ مَعَهُمْ وَلَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ، شَهِدْتُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ يُوتِرُ مَعَ إِمَامِهِ“ [مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني ص:90].
أما مَن اختار من العلماء أفضلية صلاة الرجل لوحده فقد قال الإمام الطحاوي: ”وَكُلُّ مَنْ اخْتَارَ التَّفَرُّدَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَلَّا يَنْقَطِعَ مَعَهُ الْقِيَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا الَّذِي يَنْقَطِعُ مَعَهُ الْقِيَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا“ أي لا ينبغي له أن ينفرد. [طرح التثريب ج3 ص96].
وبهذا يُعلم - أيها القارئ الكريم - خطورة ما وقع فيه هذا الجاهل وافترائه على مشروعية شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام الظاهرة، وقوله على الله بغير علم.
فينبغي على المسلم أن يحرص على أخذ العلم من أهله المعتبرين، وأن يحذر من أنصاف المتعلمين، الذين يحسبون أنهم يحسنون فإذا بهم يسيئون، ويفسدون من غير لا يشعرون.
أما أنصاف المتعلمين، فالأولى بهم أن يثنوا ركبهم في حلق العلم، وينهلوا من العلماء المعتبرين، فما أشكل عليهم من أحكام الشريعة الثابتة وجبَ عليهم أن يُراجعوا فيها العلماء، فإنه يُخشى عليهم أن يدخلوا في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾[الأنعام: 119].
وليحذروا مما حذر منه ﷺ حين قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» متفق عليه.
فاللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علماً نافعاً ينفعنا في الدين والدنيا والآخرة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه أخوكم: علي سلمان الحمادي
في الثالث والعشرين من شهر شعبان
لعام ستة وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة